1 نوفمبر 2010

نص محاضرة الأستاذ طارق حجي بجامعة الزيتونة بتونس يوم 12 أكتوبر 2010

Posted in قضايا السلام, القرون, الكوكب الارضى, الميثاق, المجتمع الأنسانى, المخلوقات, الأنجازات, الأخلاق, التكفير, التعصب, الجنس البشرى, العلاقة بين الله والانسان, انعدام النضج, اختلاف المفاهيم, دعائم الاتفاق في 1:39 م بواسطة bahlmbyom

 

الإصلاح الديني:  حجر الأساس للإصلاح في المجتمعات العربية.

د/ طارق حجي

أولاً: تصور عام

لعب الإسلام دوراً كبيراً في صياغة تاريخ وثقافة شعوب المجتمعات الناطقة باللغة العربية. وكما عرف “العقل المسلم” فترات ازدهار (بمعايير القرون الوسطى) حتى القرن الثاني عشر الميلادي، فقد عرف منذ هذا الوقت رحلة انحدار وجمود وانغلاق لا تخفى معالمها على أحد. ومنذ تفاعلت شعوب هذه المجتمعات مع الغرب (منذ اليوم الأول للحملة الفرنسية على مصر سنة 1798) فقد أصبحت الإشكالية الكبرى متجسدة في خيارين أو منهجين: الأول يزعم أن تأخر مجتمعاتنا كان ولا يزال بسبب عدم تمسكنا بالمنظومة الإسلامية كلها كمنهج حياة وعمل للأفراد والمجتمعات. أما المنهج الثاني فكان  (ولا يزال) أصحابه يرون حتمية الأخذ بآليات الحضارة الغربية كشرط أساس لتقدم مجتمعاتهم. ويمكن القول (بقليل من التعميم) أن المناخ السياسي والثقافي والفكري والتعليمي في المجتمعات الناطقة بالعربية لا يزال يشهد صراعاً بين هذين المنهجين: منهج الرجوع للجذور والأصول الإسلامية، ومنهج الأخذ بآليات وفعاليات الحضارة الغربية التي تجاوزت اليوم الغرب بمعناه الجغرافي، حيث صارت هذه الآليات في مجتمعات عديدة  خارج أوروبا.

وفي اعتقادي أن دعاة العودة للجذور والأصول ليس لديهم ما يقدمونه إلا الوعود الكبيرة للعامة. أما خاصة المثقفين فيعرفون أن التاريخ الإسلامي كان تاريخاً بشرياً محضاَ شهد فترة ازدهار نسبي (يبالغ في حقيقتها ومداها كثيرون) ثم أخذت في الانحسار والانهيار عندما أفرزت من داخلها عقلية نقلية مضادة للعقل والابتكار ووضعت سقوفاً منخفضة لعمل العقل الإنساني. وفي كل الأحوال، فإن الفترة التي يسميها البعض بالحقبة الذهبية ليست إلا فترة ذات ملامح تعكس حقائق العصور الوسطى بكل ما تعنيه الكلمة.

والمعضلة الكبرى في هذا الجدل (العقيم في نظري) هو خطيئة اعتبار محركات وفعاليات وديناميكيات ومحفزات الحضارة الغربية “غربية” .  فقد أثبتت في العديد من كتبي أن التقدم الذي شهد أوروبا الغربية قد حدث بفعل عوامل إنسانية أكثر من كونها أوروبية أو غربية. وأول هذه العوامل هو الحد الكبير من سلطان ونفوذ رجال الدين ثم رفع سقف حرية التفكير وإعمال العقل النقدي وهما العاملان اللذان طورا قيم التقدم والتي هي جلها “إنسانية صرف” وليست غربية أو مسيحية أو أوروبية.

ومن أوضح الأدلة على إنسانية وعالمية قيم وفعاليات التقدم هو ما حدث على نطاق واسع في القارة الآسيوية عندما وظفت مجتمعات غير أوروبية آليات وقيم التقدم لإحداث النهضة، فتحققت النهضة المرجوة. وهذا ما شهد الدنيا في اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان ثم بعد ذلك في مجتمعات أخرى مثل المجتمع الماليزي الذي يمكن اعتباره أوضح الأدلة على عالمية وإنسانية قيم وآليات التقدم.

وبالعودة للمجتمعات الناطقة بالعربية فإن تحليل ظواهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والإعلامية المعاصرة سيؤكد خلو بيئاتها من قيم التقدم التي هي كما ذكرت إنسانية وعالمية بكل وضوح.

سيكون دائماً التحدي الأكبر لهذا النهج آتياً من المؤسسات الدينية ليس بدافع ديني محض (ولا حتى بأي دافع ديني حقيقي ) وإنما بدافع الدفاع عن سلطان ونفوذ لا حد لهما في إدارة وتوجيه الحياة في مجتمعاتهم.

وبنفس الجزم فإن المنطقة المقدسة التي يجب التعامل معها كحجر أساس مشروع النهضة هي مؤسسة التعليم بما في ذلك  ( بل وعلى رأس ذلك) التعليم الديني. فأي عمل خارج هذا المضمار سيبقى هامشي الأثر والجدوى. فالجدوى مرهونة بما سيحدث داخل المؤسسات التعليمية (و أكرر: وفى مقدماتها مؤسسات التعليم الديني).

فإصلاح التعليم بوجه عام وإصلاح التعليم الديني بنفس الدرجة من الأهمية هما حجر الأساس الذي لن يكون بوسع أحد في مجتمعات منطقتنا (الناطقة بالعربية) إنجاز مشروع التقدم والنهضة إذا ما لم تتم قبل ذلك عملية إصلاح في التعليم وفي التعليم الديني تغرز في العقول والضمائر قيم التقدم وبصفتها قيم إنسانية وعالمية في المقام الأول.

ثانياً: قيم التقدم

إن نظرة (مما أطلق عليه في كتاباتي في علوم الإدارة الحديثة “helicopter view” “نظرة من علٍ”) للمجتمعات المتقدمة مع معرفة (عميقة) موازية لتاريخها ومسيرتها تنبئ بأن التقدم في المجتمعات التي بلغت شأناً بعيداً في مسيرة النمو والتقدم كان نتيجة لمجموعة من القيم تم تأصيلها في المجتمع من خلال تأصيلها في العملية الدينية ، وهي القيم التي تحتاج مجتمعاتنا الناطقة بالعربية لإعادة بناء مؤسساتها التعليمية ومنها مؤسسات التعليم الديني على أساسها.

وأول قيم التقدم هي العقل والنقد والفضاء الواسع للعقل النقدي  (Critical Mind) وهذه القيمة الأولى من قيم التقدم ستكون دائماً الأكثر تعرضاً لهجمات الثيوقراطية والثيوقراطيين لعلمهم بتجليات تأصل هذه القيمة من خلال المؤسسة التعليمية في أي مجتمع.

وثاني هذه القيم هي تأصيل قيمة التعددية  (Plurality) كعلم من أهم معالم الحياة بوجه عام، والمعرفة والعلم والثقافة بوجه خاص.

وثالث هذه القيم هو الغيرية (Otherness) والتي فحواها قبول الآخر أيا كان شكل أو نوع الآخر. والغيرية نتيجة طبيعية لتأصل قيمة التعددية.

ورابع هذه القيم هي عالمية وإنسانية المعرفة والعلم  (Universality of knowledge & science). وهذه القيمة ترتبط إرطباتاً جدلياً (Dialectic) وثيقاً بالقيم الثلاث السابق ذكرها.

والقيمة الخامسة هي التسامح  (Tolerance) الديني والثقافي كنتيجة طبيعية للإيمان بتعددية أوجه الحياة المختلفة.

والقيمة السادسة تتعلق بالمرأة ومكانتها في المجتمع انطلاقا من رؤية ونظرة للمرأة ككائن مساوي كليةً للرجل ويماثله في الحقوق والواجبات والقيمة الإنسانية. والرابط بين التقدم ووضع المرأة هو رابط جدلي ثنائي: فمن جهة، فإن المرأة هي نصف المجتمع عددياً، وتعطيل نصف المجتمع لا يمكن إلا أن يأتي بنتائج سلبية… ومن جهة أخرى فإن المرأة هي التي تربي النصف الآخر، فإذا لم تكن إنسانة حرة فإنها تنشئ النصف الآخر من المجتمع وهو مخلوط بالعيوب والسلبيات الناجمة عن نشأته على يد دونية.

والقيمة السابعة هي حقوق الإنسان بمفهومها الذي تطور خلال القرنين الأخيرين.

والقيمة الثامنة هي قيمة المواطنة (Citizenship) كأساس للعلاقة بين أفراد المجتمع بعضهم ببعض ولعلاقتهم بالدولة.

والقيمة التاسعة هي مفهوم الدولة الحديث ومفهوم سيادة القانون (Rule of law) واللذان يختلفان عن مفاهيم القبيلة والقرية والعائلة.

والقيمة العاشرة هي الديمقراطية بصفتها أجلّ استبداعات الإنسانية خلال القرنين الأخيرين.

والقيمة الحادية عشر هي قيمة العمل وهو ما يتضمن ما يحيط بالعمل من مفاهيم حديثة مثل العمل الجماعي والإتقان وتقنيات الإدارة الحديثة وثقافة المؤسسة عوضاً عن ثقافة الأشخاص.

والقيمة الثانية عشر هي قيمة الاهتمام بالمستقبل أكثر من الاهتمام المفرط بالماضي والذي هو من معالم الثقافة العربية.

والقيمة الثالثة عشر هي قيمة الموضوعية  (Objectivity) التي وإن كانت نسبية إلا أنها تختلف عن الشخصنة الشائعة في ثقافات قديمة من أهمها الثقافة العربية. فسوسيولوجيا القبيلة التي حكمت الثقافة العربية لحدٍ بعيد تعمل لصالح الشخصنة ويبعد عن مفهوم الموضوعية.

والقيمة الرابعة عشر هي نسبية (Relativity) العلم والمعرفة والأحكام الإنسانية. فرحلة العقل الإنساني خلال القرون الثلاثة الماضية قد أخذته بعيداً عن ثقافة الأحكام المطلقة وقرَّبته من ثقافة الأحكام النسبية.

والقيمة الخامسة عشر هي ثقافة المشاركة (Participation) لا التبعية . والمشاركة هي قيمة تتعارض كثيرا مع ما أفرزته الثقافات العربية عبر القرون من تعاظم الإتباع وضآلة المشاركة.

ثالثاً: ما العمل؟

خلال القرنين الماضيين تقدم أنصار العلم والعقل والحداثة في مجتمعاتنا قليلاً ثم حدثت انتكاسة فأصبحوا في المرتبة الثانية وبمسافة بعيدة وراء مدرسة الرجوع للجذور والأصول. وفي اعتقادي أن أسباب حدوث ذلك عديدة ولكن يبقى في مقدمتها  تواصل الجدل على المستوى الفوقي أو الكلي (الماكرو) وعدم التركيز على التغيير الجذري في العقلية من خلال التعليم. فالحوار على المستوى الفوقي يبقى في غالبه قائماً على الشعارات وهي الأكثر جذباً للجماهير. وجل أنصار منهج العودة للأصول أصحاب شعارات جذابة للعامة، حتى وان كانوا من أنصاف المتعلمين وأنصاف المثقفين (كما هي حال أغلبهم) .  وحتى عندما سمحت الفرص بوجود قيادات قادرة على إنجاز رحلة العبور من ظلام الواقع لنور التقدم (كما حدث في تركيا من 1923 إلى 1938 وكما حدث في تونس من 1956 إلى 1987)، فإن العمل في مؤسسات التعليم لم يكن كاملاً ولم يكن شاملاً بل ووصل حجم التعليم الديني (منبت الصلة بعقلية التقدم والحداثة) في بلدان حاكمة مثل تركيا ومصر ما بين 15% و20% من أبناء وبنات المجتمع المنخرطين في العملية التعليمية.

وفى اعتقادي انه رغم صعود موجة الرجوع للأصول والجذور ، فإن الوضع العالمي وحركة التاريخ هي في صالح القيادات السياسية وقيادات المجتمع المدني والنخب المثقفة وقيادات التعليم والإعلام المؤمنين بالتقدم، وسيكون بوسع هؤلاء في ظل هذه الظروف العامة أن يبذروا بذرة الإصلاح في أرض التعليم بوجه عام والتعليم الديني بوجه خاص.

رابعاً: إصلاح المؤسسات الدينية لا تجاهلها

إن متابعتي لأحوال المجتمعات الناطقة بالعربية الثقافية لقرابة أربعين سنة تجعلني أقرب إلى اليقين بأن تجاهل الدين (ناهيك عن تجريحه بأقلام وألسنة أشخاص يحركهم الغضب وليس العلم) هو موقف لن تكون له أية ثمار إيجابية. فالدين جزء أساس من الهواء الذي تتنفسه شعوب منطقتنا الناطقة بالعربية. ومن الأجدى العمل على إصلاح المؤسسات الدينية والثقافة الدينية والتعليم الديني والتعليم بوجه عام عن الدخول في مبارزة دون-كيشوطية لن تكون لها آثار إلا فقدان الجماهير وتباعدهم. وهنا تكمن خطورة مجموعات من المثقفين العرب جعلوا مهمتهم الأولى الهجوم العاتي على الدين وليس العمل على إصلاح فهم الناس له.

أضف تعليق